articles

Get this widget Get this widget Get this widget

شبهة الإعجاز العلمي


شبهة الإعجاز العلمي

                       مدخل إلى التصور العلمي-المادي للكون و تطوره
                        ------------------------------------------
                             الدكتور صادق جلال العظم
                              ________________

من المعروف جيدا أن معظم الحظارات و الثقافات التي برزت في مجرى التاريخ و أثرت فيه امتلكت في عصور تاريخية مختلفة، نظرة عامة و شاملة حول طبيعة الكون و الانسان و الحياة عامة. و يتم التعبير، في أغلب الأحوال، عن هذه النظرة المحيطة أما عن طريق الميثولوجيا و الملاحم، أو الدين بالمعنى الواسع للعبارة، أو التأمل الفلسفي العريض، أو عن ظريق مزيج من كافة هذه السبل و العوامل. و قد يحدث أن يتم التعبير عن هذه النظرة الشاملة في حضارة ما بصورة شبه رسمية و واعية، و ذلك على لسان بعض فلاسفتها أو مفكريها الكبار أو كتبها الدينية الثابتة ، أو قد يتم ذلك بصورة عفوية لا واعية على لسان شعرائها و فنانيها و كتابها و قاداتها بصورة عامة. و رغبة بالايجاز سأدعو مجموع النظريات الشاملة لطبيعة الكون التي تسود في عصر من العصور (( بالصورة الكونية )) لذلك العصر ( أو لتلك الحضارة أو لأية حقبة تاريخية محددة في حياة الانسان).
تكشف لنا دراسة الصورة الكونية السائدة في عصر من العصور أو في مرحلة حضارية معينة، جملة النظريات العامة التي تتخلل  فكر ذلك العصر و عمله و انتاجه، أي تكشف لنا عن جملة آراء و نظريات على درجة واسعة جدا من التعميم و الشمول و الشيوع، يسلم بها العصر تسليما بديهيا لا شعوريا، حول أصل الانسان و مصيره و حول الطبيعة و المعرفة و المجتمع و الأخلاق و العمل و انتاج الثروة الخ... و بطبيعة الحال ترتبط محتويات الصورة الكونية لعصر ما بحياة الانسان في المجتمع و تعكس إلى حد كبير نوعية العلاقات الاجتماعية القائمة فيه و طرق انتاج الثروة و مستوى تقدم الادوات المستخدمة في ذلك الانتاج. كما انها ترتبط ارتباطا جدليا بنوعية العلوم السائدة في ذلك العصر و مستوى تقدمها و بمفهوم العصر ((للمنهج)) الذي يفترض فيه أن يؤدي بالانسان إلى معارف يركن إليها حول كل ما يهم أمور الحياة و يؤثر فيها. بعبارة أخرى تتأثر نظرة عصر من العصور إلى المعرفة و البحث العلمي و مناهجه بنوعية الصورة الكونية التي يتصف بها ذلك العصر، كما أن العلوم السائدة و المعروفة في عصر ما تؤثر بدورها على تكوين الصورة الكونية التي يفرزها ذلك العصر و على تحديد معالمها و صفاتها الرئيسية. و على سبيل المثال نذكر أن الصورة الكونية الميثولوجية التي سادت حضارة اليونان القديمة كانت تصبغ الطبيعة ((بالحياة)) و ترى أن روحا (Anima) تتخلل كافة أجزائها و حركاتها. لذلك نجد أن معظم التفسيرات الفلسفية لظواهر الطبيعة عند اليونان، جاءت من خلال أفكار معينة مثل ((الحركات الطبيعية للأشياء)) ، ((العلل الغائبة)) و ((شوق العالم إلى المثال)) ، إلى آخر ذلك مما هو معروف عن هذه النزعة الرئيسية في  الفلسفة اليونانية. و من ناحية أخرى بإمكاننا الاشارة إلى الأهمية التي تحتلها البراهين المرتكزة إلى فكرة ((التسلسل غير المتناهي)) كما في براهين أرسطو عن وجود المحرك الأول مثلا، في التأملات الميتافيزيقية اليونانية عامة (أي في الصور الكونية الفلسفية التي تركها لنا كبار فلاسفة اليونان)، ورد هذا الدور إلى ما حققته بعض العلوم الجزئية في ذلك العصر من انجازات و أعني بالتحديد البرهان الفيثاغوري على أن جذر 2 عدد أصم إذ يعتمد هذا الاكتشاف الرياضي الشهير برهانا قائما على فكرة التسلسل غير المتناهي للكميات. كما أن تأثير العلوم الرياضية عامة و هندسة اقليدس بالتخصيص على تكوين الصور تاكونية الفليفية على مر العصور مشهور و معروف و لا داعي للاسترسال في وصفه.
أضرب مثالا عن واقع التأثير المتبادل بين الصورة الكونية الشاملة لعصر ما و بين المفهوم الذي يسود ذلك العصر عن طبيعة المعرفة و العلم مثلا. حين واجه القديس اوغسطين الافلاس الذي وصلت اليه التأملات العقلانية اليونانية بروحه المشبعة بالصورة الكونية المسيحية الجديدة، لم يتمالك نفسه من أن يصرح بنشوة: - ((المسيح هو صخرة فيزيائيا و أخلاقيا و منطقيا))
_______________________________________

بعد هذه الملاحظات التمهيدية المقتضبة، لا بد من أن أبين أن هدف هذا البحث هو دراسة الصورة الكونية التي قام الانسان الحديث بصياغتها منذ بداية القرن السابع عشر، و التي سادت تفكيره العلمي على جميع المستويات و في كافة فروع المعرفة ، لفترة تقدر بثلاثة قرون. و الحدث الأهم الذي أدى الى بروز هذه الصورة الكونية الجديدة هو بلا أدنى ريب الانقلاب العلمي (أو الثورة العلمية). في الواقع يتعذر على الانسان أن يبالغ في وصف خطورة هذا الحدث بالقياس إلى كل ما جاء بعده، و بالنسبة لحياة الانسان و تاريخه اللاحق. يقول عالم كبير ما يلي في وصف خطورة الانقلاب العلمي و اهميته:
((ترتفع الثورة العلمية في خطورتها  فوق كل شيء آخر منذ ظهور المسيحية. لقد وضعت عصر النهضة و الاصلاح الديني البروتستانتي (بالقياس إلى نفسها)  في مرتبة الأحداث العابرة ليس إلا، و جعلتها مجرد تبديلات داخلية حدثت ضمن نظام مسيحية القرون الوسطى لا أكثر . و بما أنها غيرت طبيعة العمليات الفكرية التقليدية عند الانسان ، حتى في مجرى العلوم غير المادية، و بدلت خريطة الكون و نسيج الحياة الانسانية ذاتها فانها تلوح، بصورة ضخمة جدا، على أنها المنبع الحقيقي للعالم الحديث و للعقلية الحديثة، بما يجعل تقسيماتنا المعتادة للتاريخ الاوروبي أقرب إلى المفارقات و العوائق منها إلى أي شيء آخر)) .
أدى التقدم الكبير الذي احرزته الثورة العلمية إلى بروز صورة كونية جديدة تكاملت عناصرها و مقوماتها مع مرور الوقت و توالي الاكتشافات العلمية الكبيرة (على مستوى النظرية و التطبيق) إلى أن تمت صياغتها بصورة شبه تهائية على يدي إسحاق نيوتن. و قد جرت العادة على تسمية الصورة الكونية الجديدة ((بالمادة الميكانيكية)) أو ((بالمادية الساكنة)). لقد اقتلعت المادية الميكانيكية من حيث المبدأ و الأساس، الصورة الكونية الدينية السابقة عليها، و حلت محلها في السيطرة على الفكر العلمي بشتى أنواعه و مناحيه كما سيتبن لنا في بقية البحث.
انتقل الآن إلى شرح المقومات الأساسية التي قامت عليها المادية الميكانيكية كما نيتخلصها من كتاب نيوتن ((المباديء الرياضية للفلسفة الطبيعية  )).

1) المكان المطلق:
قال نيوتن في تحديده لطبيعة المكان المطلق ما يلي:

((يبقى المكان المطلق، بطبيعته و بدون علاقة بأي شيء خارج عنه، دوما متشابها و ساكنا. أما المكان النسبي فهو بعد أو مقياس متحرك للامكنة المطلقة تحدده حواسنا بولسطة موضعه من الأجسام))
تصور نيوتن المكان على أنه وعاء لا متناهي توجد في ناحية من انحائه كمية متناهية من المادة. أي أن المكان المطلق هو الوعاء الشامل الكلي الذي يحتوي على جميع الأجسام في الكون، و لذلك يمكننا تحديد موضع أي جسم من هذه الأجسام بمجرد تعيين تلك النقطة (أو مجموعة النقاط) من المكان المطلق التي يوجد فيها الجسم. أما الأمكنة الجزئية التي ندركها بالحواس فهي ظاهرية و نسبية تتولد بسبب تأثير الأجسام على أعضاء الحس. و تتلخص الخصائص الأساسية الني أسبغها نيوتن على المكان المطلق بما يلي:
أ) المكان المطلق سرمدي و ضروري بطبيعة (غير مخلوق و غير حادث) و سابق في وجوده على وجود الأجسام الكائنة فيه. و لو ابيدت المادة الموزعة في انحائه ابادة تامة لما مسه أي تغيير أو تحول، بعبارة أخرى المكان المطلق مستقل بطبيعته استقلالا تاما عن الأجسام الموجودة فيه و خصائصها.
ب) يتكون المكان المطلق من نقاط لا أبعاد لها (أي نقاط هندسية بالمعنى الصارم) و هو غير متناه بالفعل لأن نقاطه متجانسة تجانسا تاما، و ليس بالامكان التمييز بينها إلا بواسطة الأجسام المتمايزة الموجودة فيه.
جـ ) المكان المطلق ثلاثي الابعاد و اقليدسي الخصائص ، أي أن أقصر مسافة بين نقطتين من نقاطه هي الخط الهندسي المستقيم.
و تصور خصائص المكان على أي نحو آخر مستحيل لأنه يؤدي إلى تناقض منطقي واضح (وفقا لهذه النظرية). و الهندسه هي العلم اليقيني القبلي الذي يدرس طبيعة المكان المطلق و يزودنا بالحقائق الضرورية الثابتة عنه و عن خصائصه.
2) الزمان المطلق:
قال نيوتن في تحديده لطبيعة الزمن المطلق ما يلي:
(( ينساب الزمن المطلق ، الحقيقي و الرياضي، بذاته و ببيعته بتساو و بدون علاقة بأي شيء خارج عنه و يعرف باسم  آخر هو الدوام (Duration) . أما الزمن النسبي أو الظاهري أو الشائع فهو مقياس محسوس و خارجي للدوام عن طريق الحركة. و الزمن النسبي هو المستعمل عامة، عوضا عن الزمن الحقيقي مثل ساعة أو يوم أو شهر أو عام... بالامكان أن تكون جميع الحركات أسرع أو أبطأ مما هي عليه، غير أن معدل إنسياب الزمن المطلق غير قابل لأي تحول أو تغيير. و تدوم الأشياء الموجودة على حالها إن كانت الحركات سريعة أو بطيئة أو لم تكن على الاطلاق، و لذلك وجب تمييز دوامها عن الامور التي ليست الا مقاييس محسوسة له ، كما اننا نستنتج دوامها من هذه المقاييس عن طريق المعادلة الفلكية)).
بامكاننا تلخيص نظرية نيوتن في الزمان المطلق على النحو التالي:
1) يميز نيوتن بين:
أ) الزمن الرياضي المطلق.
ب) الزمن النسبي الظاهري و هو الزمن المعروف الذي يحدد نظام العلاقات بين الأحداث
جـ) الزمن السيكولوجي (أو النفسي) و هو احساسنا الذاتي و الخاص بمرور الوقت.
2) الزمن المطلق هو الوعاء الشامل الكلي الذي يحتوي على جميع  الاحداث عبر الكون و لذلك يمكننا تحديد تاريخ حدوث أي منها بتعيين اللحظة الزمنية التي وقع فيها.
3) الزمن المطلق سابق في وجوده، من الناحية الانطلوجية و المنطقية، على وجود الأحداث، و هو ضروري و سرمدي بطبيعته يبقى على حاله مهما حدث فيه . بعبارة أخرى الزمان المطلق مستقل استقلالا تاما عن الاحداث التي تقع فيه، و هو لن يتأثر البتة لو تلاشت محتويانه تلاشيا تاما بل يبقى على حاله دون أي نغيير أو تحول كالوعاء الذي لا يتغير إذا تلاشت محتوياته. أما الأحداث فلا يمكن تصورها بدون الوعاء الزمني الذي يحويها و تقع فيه.
4) الزمن المطلق غير متناه بالفعل لأن لحظاته المتعاقبة متجانسة تجانسا تاما. و ليس بالامكان التمييز بين لحظات الزمان المتجانسة إلا بواسطة الأحداث المتمايزة التي تقع عندها و ذلك بواسطة العلاقات الزمانية التي تحددها اللحظات بين هذه الأحداث.
5) يعتبر نيوتن أن إنسياب الزمن بمعدل منتظم ثابت و ضروري مستقل استقلالا تاما عن القوانين التي تسير بموجبها الحركات الموجودة في الزمان و المكان. و لذلك نراه  يقول:
(( إن النظام الذي تترتب فيه أجزاء الزمان ثايت لا يتغير... و لو فرضنا جدلا أن تلك الأجزاء خرجت من مواضعها فإنها ستكون قد خرجت عن ذاتها،  لو صح التعبير)).
بعبارة أخرى إن فكرة تبدل معدل إنسياب لحظات الزمن عما هو عليه متناقضة مع نفسها.
6) يتصف الزمن النيوتوني بأربع خصائص رئيسية و هي:
أ) الانسياب أو الجريان بمعدل ثابت أو مطلق.
ب) الآنية أو اللحظية: يتكون الزمان بالنسبة لنيوتن من لحظات أو آنات لا مدة لها و لا بقاء تقع عندها الأحداث، أي أن الآنية أو اللحضية المطلقة هي حقيقة واقعة في الكون.
جـ) التعاقب: تنظيم لحظات الزمن النيوتوني في سلسلة لا متناهية من التعاقب في اتجاه واحد. و بشكل تعاقب الأحداث الواقعة في عدد معين من اللحظات حقيقية مطلقة في الكون لا تتأثر بالمعايير المستعملة، على اختلاف أنواعها و أشكالها، في قياس الزمن.
د) التآني:  بشكل تآني  الأحداث حقيقة واقعة مطلقة في الكون يمكن تحديدها و قياسها بدقة صارمة. و لذلك نحن نتصور اللحظة الزمنية الواحدة موجودة في أماكن متعددة. و يقول نيوتن بهذا الصدد:
((كل جزء من أجزاء المكان موجود دائما و كل جزء لا يتجزأ من الزمان (أي اللحظة) موجود في كل مكان   ))
3) المادة:
تتألف جميع الأشياء في الكون من ذرات مادية مفردة، بمعنى كونها الأجزاء البسيطة التي لا تتجزأ إلى ما هو أبسط منها على الإطلاق. و كل ذرة من هذه الذرات موجودة في نقطة معينة من نقاط المكان المطلق، و حادثة في لحظة من لحظات الزمان المطلق. و تتصف هذه الجسيمات المادية البسيطة بالخصائص الأولية الرياضية فقط (الحجم، الكتلة، السرعة، القصور الذاتي الخ ....). أما الكيفيات المحسوسة (اللون و الرائحة و الطعم و الملمس الخ ...) فهي ليس من خصائص الذرات المادية أصلا و تتولد من تأثير حركة الأجسام على أعضاء الحس في الكائنات الحية. الكيفيات المحسوسة التي نخلعها، بحكم العادة، على العالم المحيط  بنا و كأنها من صفاته الحقيقية المستقلة، هي في واقعها ذاتية و نسبية إلى الذات المدركة و المتأثرة بحركات الذرات المادية. تقول لنا دروس الكيمياء أن من خصائص الماء الفيزيائية أنه بلا لون أو طعم أو رائحة. غير أن الماء كما نعرفه في حياتنا اليومية و في تجربتنا المباشرة يتصف دوما بلون ما و بطعم ما و برائحة ما . أما التفسير المعروف لهذه المفارقة القائمة بين ما تقوله دروس الكيمياء من ناحية و ما تشهد عليه التجربة المباشرة من ناحية أخرى فيأتي من خلال نظرية المادية الساكنة إلى طبيعة الذرات المادية البسيطة و خصائصها. أي أن الجزيئات المادية التي يتكون منها الماء لا لون لها و لا طعم و لا رائحة ، غير أن هذه الجزيئات تؤثر على أعضاء الحس بصورة معينة (تحددها مجموعة ظروف و أوضاع محيطة) لتولد فينا الاحساس بلون معين و طعم معين و رائحة معينة ننسبها كلها للماء كما ننسب الدفء إلى الملابس الصوفية (أي مجازا و تجاوزا) في حين يكون الدفء ، فينا و ليس بالملابس التي نقول عنها أنها دافئة.
4) الحركة:
تخضع الذرات المادية إلى حركة دائمة و مستمرة وفقا لقوانين محددة يمكن صياغتها صياغة رياضية صارمة هي قوانين الحركة المعروفة مثل قانون القصور الذاتي. و ينبغي الاشارة هنا  إلى أن النوع الوحيد من التغير أو التحول الذي يمكن أن يطرأ على الذرات المفردة هو تبديل مواضعها في المكان المطلق وفقا لقوانين الحركة. أي أن كافة الحركات و التحولات في الكون ،  مهما كانت معقدة و كبيرة، هي في التحليل النهائي ليست إلا تبديلات آلية في أماكن الذرات المادية. تترتب الذرات بصورة آلية (ميكانيكية) محضة في تشكيلات معينة و بعد انحلال هذه التشكيلات تعود لتترتب من جديد في تشكيلات غيرها و هلم جرا. و بما أن الذرة المفردة  بحد ذاتها لا تخضع لأي نوع من أنواع التحول الداخلي (كالنمو مثلا) أو التغير العضوي سميت هذه النظرية (( بالمادية الساكنة )) . و بما أن الحركة الوحيدة التي تخضع لها الذرات المفردة هي الانتقال الآلي  المحض من مكان إلى آخر فقط سميت التظرية ((بالمادية الميكانيكية)) .
من الركائز الأساسية التي أشاد عليها نيوتن المادية الساكنة التمييز بين حركة الأجسام (الذرات) المطلقة و بين حركاتها النسبية. و سأعمل على إيضاح هذه الفكرة عن طريق مثال يعتمد أحد قوانين الحركة الأساسية . إن دلالة  قانون القصور الذاتي هي السرعة الثابتة لجسم (جـ) لا يقع تحت تأير أي قوى خارجية بحيث يجتاز مسافات متساوية تماما في فترات زمنية متساوية  تماما أيضا. لا تتحقق هذه الحالة إلا إذا تصورنا وجود (جـ) وحده في الوعاء المكاني غير المتناهي لأن وجود جسم أخر معه سيؤثر فيه فقا لقانون الجاذبية العام . لنفترض أن (جـ) موجود وحده  في المكان و الزمان، عندئذ بإمكاننا أن نستوعب معنى حركة (سرعة) جـ المطلقة على أساس تلك الأجزاء من الزمن المطلق التي يستغرقها في قطع مسافات معينة من المكان المطلق.
حققت نظرية المادية الميكانيكية نجاحا باهرا ، لم يسبق له مثيل أبدا في تاريخ العلوم، بتقديمها الأجوبة العلمية الشافية و الحلول الرياضية الدقيقة لكافة المعضلات و القضايا التقليدية المتعلقة بحركة الأجرام السماوية و مشكلات التنبوء بمساراتها و أحوالها. فسيطرت أفكار هذه النظرية و مناهجها و أساليبها في البحث و التفسير على كافة المحاولات الجادة لتحليل ظواهر الطبيعة مهما كان نوعها و تفسيرها علميا. بعبارة أخرى ، اقتفت جميع العلوم أثر المادية الميكانيكية في تفسير الظواهر التي تدرسها حتى أصبح ((التفسير العلمي)) لظاهرة ما، يعني بالتحديد فهمها وفقا ((لنموذج ميكانيكي)) يردها إلى وحداتها البسيطة و كيفية تأثير هذه الوحدات على بعضها حسب قوانين آلية محضة. و من ثم، عبر عن هذا الاتجاه الذي ساد العلوم لفترة غير قصيرة العالم الانجليزي المشهور لورد كيلفن (Kelvin) الذي كتب في نهاية القرن التاسع عشر ما يلي:
(( لا أستطيع أن أرضي نفسي حتى أتمكن من صنع نموذج ميكانيكي للشيء (الذي أدرسه) . إذا تمكنت من صنع النموذج الميكانيكي تمكنت من فهم ذلك الشيء )).
أنتقل الآن إلى ضرب بعض الأمثلة عن امتداد المادية الميكانيكية بأفكارها و مناهجها إلى بقية العلوم و الدراسات لتبيان سيادتها على التفكير العلمي عامة بعد ان أنطلقت من مجالات الفيزياء و الفلك و علم الحركة. نذكر على سبيل المثال الأول نظرية توماس هوبز في تفسير ظاهرة المجتمع الإنساني و نشأته، و تفسيره لضرورة السلطة السياسية و مبررات وجودها حسب مناهج المادية الميكانيكية لغاليليو حيث اتبع هوبز منهج المادية الميكانيكية في تحليل الظاهرة المراد تفسيرها إلى أبسط عناصرها الممكنة ثم إعادة تركيبها على أساس التأثير الآلي المتبادل بين الأجزاء البسيطة وفقا لقوانين سببية معينة. و العنصر البسيط الذي يتألف منه المجتمع عند هوبز هو الإنسان الفرد الذي تحركه غريزة البقاء و قانون المحافظة على النفس بمعزل عن أية اعتبارات أو قوى مؤثرة أخرى. الانسان ، في ((حالته الطبيعية)) ، أي قبل دخوله الحياة الاجتماعية المنتظمة ، ذرة مفردة تصطدم بمثيلاتها من الذرات البشرية المنغلقة على نفسها فتؤثر و تتأثر بها بصورة آلية (أو شبه آلية).
و نتيجة لهذا الصدام و التأثير المتبادل بين الذرات البشرية تنتج الحياة البشرية المنتظمة تحت إشراف السلطة السياسية التي تخفف من حدة هذا الصدام المستمر و تحد عن آلامه و ويلاته. أي تترتب الذرات البشرية في تشكيلات معينة تربطها روابط تعاقدية يسري مفعولها مباشرة على المجموعة في حال دخول أطرافها في الرابطة. و هذا هو جوهر الحياة في المجتمع الانساني. أما في مجال النشاط الاقتصادي فتصبح الوحدة البسيطة (( الانسان الاقتصادي)) (كما سماها آدم سميث) ، الذي يتحرك دوما و بصورة أوتوماتيكية بدافع زيادة أرباحه إلى أقصى حد ممكن و خفض خسائره إلى أدنى حد ممكن. و يتركب النشاط الاقتصادي العام للمجتمع من مجموع التأثيرات المتبادلة بين ((الذرات الانسانية الاقتصادية)) وفقا لحركتها الآلية و ذلك ضمن مجال السوق الحرة بخصائصها و قوانينها الثابتة ، و واضح هنا أن فكرة السوق الحرة التي تضم ضمن حدودها حركات ((الذرات الاقتصادية)) وفقا لحركتها الآلية و ذلك ضمن مجال السوق الحرة بخصائصها و قوانينها الثابتة، و واضح هنا أن فكرة السوق الحرة التي تضم ضمن حدودها حركات ((الذرات الاقتصادية)) وفقا لخصائصها الثابتة ، قريبة جدا من فكرة المكان الفارغ المطلق الذي يحتوي على كافة الحركات التي تطرأ على الذرات المادية وفقا لخصائص المكان الثابتة.  و نجد النزعة ذاتها تسود دراسة الأخلاق كما عبرت عنها المدارس النفعية . ينزع  ((الإنسان الأخلاقي)) بطبيعته إلى زيادة كمية سعادته إلى أقصى حد ممكن و خفض كمية آلامه و بؤسه إلى أدنى حد ممكن، و نتيجة لتفاعل هذه ((الذرات الأخلاقية الأنانية)) تتولد الحياة الأخلاقية في المجتمع، و تتم عملية تعريف معايير الفضيلة و الحق فيه، و هذا تماما ما حاول أن يفعله مفكر كلاسيكي مشهور مثل ((جارمي بانثام)) في فلسفة الأخلاق و التشريع التي وضعها.
انتقلت عدوى المادية الميكانيكية إلى دراسة الأحياء فأعطتها أساسا علميا حقيقيا و جديدا. عبر عن النظرة الميكانيكية في علم الفيزيولوجيا الحيوانية العالم ت.هـ هاكسلي بالكلمات التالية:
((الفيزيولوجيا الحيوانية - هي معرفة وضائف أو أفعال الحيوانات. أنها تعتبر أجسام الحيوانات آلات مدفوعة بقوى معينة، و تقوم بكمية من العمل يمكن التعبير عنها بواسطة القوانين الطبيعية المعتادة. إن الغاية القصوى للفيزيولوجيا هي إستخلاص وقائع المورفولوجيا من ناحية و وقائع  الإيكولوجيا (علم البيئة) من ناحية أخرى، من قوانين القوى الجزيئية للمادة)).
و لا بد لنا من الإشارة هنا إلى نظرية داروين هذا العالم الذي يحتل مكانه في علم الأحياء تشبه تماما المكانة التي يحتلها نيوتن بالنسبة للفيزياء. انه نيوتن البيولوجيا بمعنى أنه تمكن من تفسير أصل الأنواع و تطورها و تفرعها، و تعليل تكيف الكائنات الحية مع بيئتها على أساس قوانين آلية محضة، و من خلال فعل قوى طبيعية ميكانيكية خالصة لا تدخل فيها التفسيرات التقليدية التي ترتكز إلى العلل الغائية و إلى أفكار غيبية خول نظام الطبيعة و ضرورة وجود صانع و منظم لها. و مع قدوم فرويد على  المسرح سادت النزعة المادية الميكانيكية علم النفس و أنتجت تفسيرات جديدة للظواهر النفسية. و يكفي أن نذكر  هنا أن التفسير الفرويدي يرجع شخصية الإنسان المعقدة إلى عناصرها البسيطة ثم يفسر هذه الشخصية ، بكافة نوازعها و مختلف وجوهها، على أساس التفاعل الآلي المحض بيت هذه العناصر، و أعني بالتحديد التفاعل الميكانيكي الصارم بين ((الأنا السفي)) و (( الأنا العليا)) و هو التفاعل الذي يكون شخصية الإنسان على المدى البعيد بما فيها الميول السليمة و الميول المرضية الهدامة. هنا بإمكاننا الإشارة إلى بيت شعر إستشهد به هوايتهيد ليلخص بجملة واحدة فحوى الصورة  الكونية المادة الميكانيكية:

 .((The stars)), she whispers , ((blindly run)) 
______________________________________________
بالرغم من أن المادية الميكانيكية سادت التفكير العلمي  الحديث قرابة ثلاثة قرون سيادة شبه تامة فإن هذا لا يعني أنها لم تجابه الكثير من النقد و التجريح و التحدي من قبل فئات مختلفة من أهل الفكر و النقد. و جاءت أول موجة من النقد الموجه للصورة الكونية الميكانيكية هذه من  جهة اليمين الذي قال أنها نظرة مادية ملحدة و متشائمة بالنسبة للإنسان و مصيره النهائي، كما أحذ عليها تخصيص المكان و الزمان بصفات مطلقة لا يجوز خلعها إلا على الذات الإلاهية. و كان أهم ممثل لهذه النزعة اليمينية في نقد المادية و رفضها هو  الفيلسوف الانجليزي ((باركلي)) الذي حاول أن يحل محلها صورة كونية مثالية روحية تعتبر جميع الكيفيات المحسوسة ، في التحليل الأخير، أفكارا في العقل الإلاهي و ذلك بالمعنى الحرفي للعبارة تقريبا ، و بهذا الصدد نذكر أيضا أن الفيلسوف الألماني لايبنيز دخل في جدل مشهور مع نيوتن و أتباعه هاجم فيه أسس المادية الساكنة من وجهة نظر مثالية روحية محضة. كما برز هذا الاتجاه في رفض المادية عند مجموعة من الشعراء و الفنانين الانجليز الذين ينتمون إلى المدرسة الرومانسية (في كتاب العلم و العالم الحديث ). ثار هؤلاء الشعراء على النظرة الميكانيكية المحضة إلى الكون لانها تجرد الوجود من كل معنى و غاية و تجعل الطبيعة عمياء في مجرى أحداثها. كما أنهم أخذوا عليها مأخذا آخر و هو تجريد الطبيعة، كما هي بذاتها و على حقيقتها، من كافة الصفات التي تسحر العين و تفتن الحواس (اللون، الطغم، الرائحة، المخ ...) أي من الصفات التي نعتبرها عادة زينة الأشياء و مصدر جمالها و سحرها. إن جميع هذه الصفات ذاتية و نسبية إلى الذات المدركة، و لا وجود لها في حقيقة الأشياء المادية البسيطة. إحتج الشعراء و الفنانون ضد المادية الميكانيكية لأنها سلبت الطبيعة جزءا هاما جدا من صفاتها التي  يتمتع بها كل إنسان في حياته العادية و يتذوقها الفنان كيفما اتجه، غير أن النقد االيميني للمادية الميكانيكية لم يلق آذانا صاغية خارج أوساط نفر من الأديان و رجال الدين و بعض الفلاسفة من أصحاب الميول المثالية الواضحة. و من المؤكد أنه لم يكن لهذا النقد أي تأثير على العلوم الطبيعية و الإنسانية و على نزعتها العنيفة المتزيدة للأخذ بأفكار المادية ومناهجها و طرقها الناجحة جدا في تفسير الظواهر.
أما النقد الأهم الذي وجه إلى المادية الميكانيكية فقد جاء من جهة اليسار و تحت إسم المادية الديالكتيكيىة. جاء هذا النقد في أعمال ماركس و أنجلز و مجموعة المفكرين المنتمين إلى هذه المدرسة الفكرية الثورية. و يتلخص نقد المادية الديالكتيكية الموجه للمادية الساكنة في النقاط التالية:
1) بما أن المادية القديمة تقدم صورة ساكنة للوحدة المادية الأولية البسيطة التي تتألف منها الأشياء تظل بذلك عاجزة عن تقديم التعليلات الصحيحة و الواقعية  للنواحي الديناميكية المتحركة في الكون، و تنطبق هذه الحقيقة بصورة خاصة على ظواهر معينة مثل النمو العضوي و التغييرات الكبيرة في التاريخ و التحولات الاقتصادية و الاجتماعية في حياة الانسان. و عليه ترفض المادية الديالكتيكية فكرة الذرة المفردة التي لا تخضع بحد ذاتها لأي نوع من أنواع التغير أو التطور أو النمو لتحل محلها مفهوما حركيا للمادة بحيث تكون الصيرورة الدائمة هي جوهر المادة و لبها بدلا من أن يكون التغير صفة خارجية طارئة على ذرة ساكنة بذاتها كما هي الحال في التصور القديم . ترفض المادية الديالكتيكية تصور المادة على أنها جسيمات بسيطة لا تتجزأ لكل واحد منها موضعها المكاني المحدد تماما في كل لحظة من لحظات الزمن المطلق، كما ترفض التصور المقابل الذي يرى أن مجموع الذرات المادية المنتشرة في المكان المطلق تشكل في أية لحظة زمنية، واقعة سكونية لا يمكن تمييز ماضيها عن حاضرها عن مستقبلها من خلال خصائصها الأصلية لأن مرور الزمن لا يترك أي أثر فيها على الإطلاق و جدير بالذكر هنا أن هوايهتد وجه مثل هذا النقد بالذات للمادية الساكنة في  الربع الأول من القرن العشرين و نشره تحت إسم (( أغلوطة التموضع البسيط  The fallacy of simple location)) . بعبارة أخرى تشدد المادية الديالكتيكية على أن مرور الزمن لا يترك طبيعة المادة دوما على ما هي عليه لأن واقع المادة هي الصيرورة الدائمة حيث التحول المستمر و النمو و التطور و الانحلال . صاغ انجلز نقده للمادة الميكانيكية في الكلمات التالية:  (( و لا حاجة للقول أن الفلسفة الطبيعية القديمة (أي فيزياء المادة الساكنة) كانت عاجزة عن إرضائنا رغما عن قيمتها الفعلية و عن البذور الخصبة العديدة المحتواة فيها و كان خطؤها أنها لم تعترف للطبيعة بأي تطور في الزمان، بأي تعاقب، بل بالتوجد (التآني) فحسب  )) . 
و بعد فترة غير قصيرة نسبيا على ما كتبه انجلز في هذا الصدد وجه الفيلسوف الإنجليزي هوايتهيد ذات النقد إلى المادية الساكنة بقوله: (( أضف إلى ذلك أن كون المادة لا تتأثر بتقسيم الزمان يؤدي إلى نتيجة هي جعل مرور الزمن عرضيا بالنسبة لطبيعة المادة بدلا من أن يكون من جوهرها. و عليه فإن مرور الزمن لا يمت بأية صلة على الإطلاق إلى طبيعة المادة.. و بذلك تكون المادة الأولية غير قابلة للتطور أو النمو و غير قادرة عليه)).
و إستنادا إلى هذه النظرة الحركية الحقيقية للكون نشدد المادية الديالكتيكية، على حقيقة الترابط العضوي الجوهري القائم بين كافة الموجودات في الكون. و ذلك مقابل ((العزلة)) المفروضة على كل ذرة من الذرات المادية وفقا للنظرية القديمة القائمة على فكرة التموضع البسيط. و فيما يلي نص مبسط يشرح وجهة نظر المادية الديالكتيكية في هذه الناحية من الموضوع:
((من وجهة النظر الديالكتيكية الطبيعية ليست حالة سكونية راكدة ثابتة بل هي خالة من الحركة المستمرة و التغير المستمر ، من التجديد و النمو الدائمين حيث نجد دوما شيئا جديدا ينشأ و يتطور،  و شيئا آخر يموت و بنحل. يتطلب المنهج الديالكتيكي إذن أن ننظر إلى الظواهر ليس من ناحية ترابطها و إعتمادها بعضها على بعض فحسب، و لكن من ناحية حركتها أيضا، أي من ناحية تغيرها و نموها،  تكونها و فسادها)).
حيث تشدد المادية الديالكتيكية على أن الحركة (الصيرورة) هي جوهر الواقع المادي، فهي لا تعني بالحركة التبديل الآلي لمواضع  الكتل المادية في المكان. أوضح انجلز هذه المسألة في نقده للمادية الميكانيكية بقوله: ((غير أن هذه الحركة الميكانيكية ليست الحركة كلها، إذ أن الحركة  ليست مجرد تبديل الأماكن، ففي ميادين علمية أرقى من الميكانيكا تعني الحركة التغير بالكيفية أيضا )).
بعبارة أخرى الحركة، وفقا لهذا المفهوم، ليست علاقة خارجية طارئة على طبيعة المادة بل هي تطور حقيقي و نمو تاريخي تراكمي يولد باستمرار صورا أرقى و أرفع من الكائنات الطبيعية، أي أرقى و أرفع من حيث دقة تراكيبها و درجة تعقيدها. عبر لينين عن أهمية الصيرورة في هذا النوع من التصور لحقيقة الواقع المادي بعبارة مقتضبة و لكنها هامة. قال: ((إن قلنا أن العالم هو مادة متحركة أو أن العالم هو حركة مادية لا فارق في ذلك على الإطلاق)).
و قد أشار هوايتهيد فيما بعد إلى ذات الفكرة في نقده للمادية الميكانيكية حيث قال ما معناه أن ((التطور)) في المادية الساكنة ليس إلا كلمة تستخدم لوصف تبدل العلاقات الخارجية (أي المكانية) بين أجزاء المادة مما يفرغ عملية التطور و النمو من محتواها التاريخي التراكمي أي مما يفرغها من معناها  الجاد و مغزاها الواقعي.
2) من المآخذ الهامة التي تأخذها المادية الديالكتيكية على المادية الساكنة نزعتها التجريدية التي تؤدي بها إلى الخلط بين التجريدات الذهنية الكلية الساكنة من ناحية و بين الواقع العيني المتحرك  المحسوس من ناحية أخرى . تصطنع النظرية المادية القديمة مجموعة تصورات مجردة (مثل الذرة المادية بتموضعها البسيط) تجدها مفيدة جدا في العلوم الطبيعية و غيرها مما يجعلها تعتقد أن الكون مؤلف حقا من وقائع تسميها هذه التصورات و تصفها وصفا دقيقا . أي أن المادية القديمة لا تعتبر الذرة المادية بتموضعها البسيط مجرد تجريد ذهني مفيد بل تنظر إليها على  أنها موجودة فعلا كعنصر بسيط تتكون منه كافة الأشياء.
كما أن هويز و غيره من المفكرين حين وضعوا نظرياتهم التعاقدية في نشوء على طبيعة المادة بل هي تطور حقيقي و نمو تاريخي تراكمي يولد باستمرار صورا أرقى و أرفع من الكائنات في الطبيعة، أي أرقى و أرفع من حيث دقة تركيبها و درجة تعقيدها. عبر لينين عن أهمية الصيرورة في هذا النوع من التصور لحقيقة الواقع المادي بعبارة مقتضبة و لكنها هامة. قال: ((إن قلنا أن العالم هو مادة متحركة أو أن العالم هو حركة مادية لا فارق في ذلك على الإطلاق)).
و قد أشار هوايتهد فيما بعد إلى ذات الفكرة في نقده للمادية الميكانيكية حيث قال ما معناه أن ((التطور)) في المادية الساكنة ليس إلا كلمة تستخدم لوصف تبدل العلاقات الخارجية (أي المكانية) بين أجزاء المادة مما يفرغ عملية التطور و النمو من محتواها التاريخي التراكمي أي مما يفرغها من معناها  الجاد و مغزاها الواقعي.
3) من المآخذ الهامة التي تأخذها المادية الديالكتيكية على المادية الساكنة نزعتها التجريدية التي تؤدي بها لى الخلط بين التجريدات الذهنية الكلية الساكنة من ناحية و بين الواقع العيني المتحك و المحسوس من ناحية أخرى. تصطنع النظرية المادية القديمة مجموعة تصورات مجردة (مثل الذرة المادية بتموضعها البسيط) تجدها مفيدة جدا في العلوم الطبيعية و غيرها ، مما يجعلها تعتقد أ الكون مؤلف حقا من وقائع تسميها هذه التصورات و تصفها وصفا دقيقا. أي أن المادية القديمة لا تعتبر الذرة المادية بتموضعها البسيط مجرد تجريد ذهني مفيد بل تنظر إلأيها على أنها موجودة فعلا كعنصر بسيط تتكون منه كافة الأشياء.
كما أن هويز و غيره من المفكرين حين وضعوا نظرياتهم التعاقدية في نشوء 
لجسم  وحيد في المكان ) ، هي تجريدات مفيدة و لكنها بعيدة كل البعد عن الواقع العيني المحسوس  بكل تراثه و تنوعه و تكثر مستويات تعقيده و لا يمكن أ، نعتبرها الوحدات الأولية الحقيقية التي يتكون منها العالم فعلا. لذلك نظر هوايتهد إلى مهمة الفلسفة نظرة شبيهة بالنظرة التي وجدناها عند إنجلز حول هذا الموضوع بالذات حيث إعتبر أن من وظائف الفلسفة الرئيسة النقد المستمر للتجريدات التي يستخدمها الإنسان في مجالات المعرفة المختلفة بغية الحيلولة دون الخلط بين التجريد الذهني الكلي من ناحية و الواقع العيني من ناحية أخرى.  و تكون الفلسفة بذلك تحذير دائم ضد الإنغلاق ضمن إطار التجريدات الكلية الساكنة و الإنشغال بها و كأنها الحقائق الواقعة، و دعوة مستمرة للعودة إلى الواقع المادي المتحرك و التمعن فيه باعتباره البداية التي تنطلق منها المعرفة، و النهاية التي ينبغي أن تعود إليها لتتحقق من صدق قضاياها و فعاليتها. و نتيجة لهذا المنطق رفضت المادية الديالكتيكية مجموعة الحقائق الأساسية في المادية الساكنة ، مثل المكان المطلق و الزمان المطلق و السكون المطلق ، و الحركة المطلقة، و أصرت على نسبية كافة هذه الظواهر إلى الواقعية الأساسية في الكون و هي الصيرورة المادية. و على سبيل المثال أورد  مقطعا صغيرا من كتابات إنجلز يرفض فيه بوضوح فكرة الحركة المطلقة (و السكون المطلق) من حيث هي حقيقة واقعية في الكون كما اعتبرتها المادية القديمة:  ((السكون و التوازن ليسا إلا حالة نسبية فحسب، و لا معنى لهذه الحالة إلا بالنسبة إلى نوع محدد من أنواع الحركة (حيث تكون هي مناط الإسناد)... أما حركة الجسم الوحيد في الكون فليس لها وجود، كما أنه ليس بالإمكان التكلم عنها إلا بالمعنى النسبي )).
في الواقع ينطوي رفض المادية الديالكتيكية لفكرة السكون المطلق و قولها بنسبية الزمان و المكان على نتائج خطيرة جدا لم تتضح كليا إلا مع مجيء  النظرية النسبية في بداية القرن العشرين. و واضح أن واضعي المادية الديالكتيكية أنفسهم لم يدركوا تماما (و لم يكن بالإمكان أن يدركوا) نوعية النتائج المترتبة على رفضهم لمطلقات النظرية الميكانيكية و مدى خطورتها، و من ثم جعلت المادية الديالكتيكية، برفضها هذا، العلاقات الزمانية و المكانية من خصائص الأشياء و الأحداث، (و ليس أوعية مستقلة عنها و تحتويها فقط) . و يعني هذا أن طبيعة العلاقات المكانية و الزمانية تتحدد نسبة إلى القوانين السببية الضابطة لمجرى الصيرورة المادية و تفاعل أجزتئها في حقبة كونية معينة. و بإمكاننا إستخلاص النتائج التالية من إقرار هذه  العلاقة الجديدة بين طبيعة الزمان و المكان من ناحية و صيرورة الواقع المادي من ناحية أخرى:
أ) بطلان فكرة المادية الكلاسيكية في شطر الطبيعة شطرين ، أي إلى وعائين مطلقين أحدهما زمني و الثاني مكاني، و إلى عدد  متناه من الأشياء الموجودة فيهما.
ب) ليس للزمان و المكان طبيعة ضرورية مطلقة أو خصائص سرمدية لازمة بمعزل عن محتوياتها المادية. تنتفي بذلك الفكرة النيوتونية القائلة بأن الزمن يتصف بمعدل إنسياب مطلق و قائم بذاته و تحل محلها نسبية ما نسمسه عادة ((بمعدل انسياب الزمن)) إلى خصائص الصيرورة المادية و إلى المقاييس التي نستحدمها في تقديره كما في النظرية النسبية العامة.
جـ) و ينتج عن هذه الإعتبارات بطلان القول النيوتوني القديم بأن ((الآنية)) و ((التعاقب)) و ((التآني)) هي حقائق مطلقة و واقعية في الكون. كما ينتج عنها نسبية خصائص المكان التقليدية (المكان، متجانس، إقليدسي، ثلاثي الأبعاد ...إلخ) إلى المادة التي تقول أنها موجودة في المكان و حادثة فيه.
د) بالإمكان وجود أزمنة مغايرة في خصائصها للزمن النيوتوني كما افترضته المادية الساكنة، و أمكنة لا إقليدسية مغايرة في طبيعتها للمكان المطلق التقليدي  و ذلك وفقا لنوعية التطورات التي تطرأ على صيرورة المادة و الصور المركبة التي تأخذها في تحولاتها المعقدة. و تستبع هذه الإمكانية بطبيعة الحال وجود ميكانيكيات لا نيوتونية و هندسات لا إقليدسية تتناسب مع خصائص الأزمنة و الأمكنة المذكورة.
3) ترفض المادية الديالكتيكية النزعة التبسيطية الشديدة التي تتصف بها المادية الساكنة في محاولاتها تعليل الظواهر ، مهما كان نوعها و مستوى تعقيدها، على أساس النماذج الميكانيكية فحسب. تتجلى النزعة التبسيطية في المادية القديمة على وجهين:
أ) محاولة النظرية الميكانيكية رد كافة أنواع الحركة و التغير ، بما فيها الصيرورة التاريخية و النمو العضوي و التحولات الإجتماعية، إلى الترتيبات المتبادلة لأجزاء المادة الذرية. و هذا يعني الإعتقاد بضرورة إرجاع أنواع الصيرورة الأرقى و الأرفع في تركيبها و مستوى تعقيدها إلى حركات أبسط ، و ذلك دون باق. و أفضل مثل هذه النزعة التبسيطية ، الجدل الذي دار في القرن التاسع عشر بين فئتين من الإختصاصيين في علم الأحياء، و أعني الجدل بين أصحاب المذهب الحيوي (Vitalistis) و أصحاب المذهب المادي الميكانيكي البحت. كان يعتقد  الميكانيكيون من علماء البيولوجيا أنه بالإمكان إرجاع القوانين البيولوجية التي تتحكم بنمو و تطور الكائنات الحية إلى قوانين الفيزياء و الكيمياء (أي قوانين المادة عامة) إرجاعا تاما و بدون أي باق محدد يميز علم البيولوجيا عن الكيمياء و الفيزياء تمييزا نوعيا جوهريا و ليس كميا فحسب.  و عملية التبسيط هذه تعني هنا رد الصيرورة الحيوية، بكل ما تتصف به من تعقيد و تركيب دقيق جدا في أجزائها، إلى الحركات الآلية البسيطة لأجزاء المادة الذرية. أما أصحاب المذهب الحيوي فقد نكروا هذا الزعم و رفضوه و اصروا على استحالة إرجاع البيولوجيا إلى الكيمياء إرجاعا تاما،  و شددوا على وجود فارق نوعي يخص علم البيولوجيا وحده دون غيره من العلوم. غير أن أصحاب المذهب الحيوي لم يتمكنوا من تقديم أي تفسير علمي إيجابي واضح لطبيعة الفارق الكيفي الذي يفترض فيه أن يميز،  من حيث المبدأ، بين الظواهر البيولوجية و الظواهر الكيميائية و الفيزيائية. و بسبب هذا العجز إضطروا تحت ضغط نقادهم، لأن يستعينوا بتعليلات ميتافيزيقية غامضة و قوى غيبية خفية في محاولاتهم شرح طبيعة العنصر المميز للصيرورة الحيوية عن حركة المادة الميكانيكية البحتة.
ب) يتضح الوجه الثاني للنزعة التبسيطية التي تتصف بها المادية الساكنة في الأعتقاد القائل أنه لو توفرت لنا معرفة دقيقة و كاملة لخصائص الذرات المادية لإمكاننا التنبؤ مسبقا ، و بصورة يقينية ، بكافة التشكيلات التي ستدخل فيها هذه الذرات و بكافة الظواهر التي ستنشأ عن تشكيلاتها. و كان أفضل من عبر عن هذا الإعتقاد العالم الرياضي الفرنسي لابلاس (Laplace)  الذي ضرب المثل التالي ليشرح الفكرة الأساسية الكامنة خلف عقيدة المادية الميكانيكية : لو افترضنا أن عقلا رياضيا جبارا يعلم تماما سرعة كل ذرة مادية في الكون، و يعلم موضعها المحدد في المكان المطلق، و ذلك في كل لحظة من لحظات الزمن الرياضي سيكون باستطاعته أن يرى  ماضي الكون و حاضره و مستقبله كواقعة واحدة حاضرة الآن أمامه . أي سيكون عليما بكل شيء من خلال ((المباديء الرياضية للفلسفة الطبيعية)) كما وضعها نيوتن، و بدون هذه المباديء ليس ثمة شيء إسمه ((علم)) بالمعنى الدقيق و الصارم للعبارة.
ترفض النظرية الديالكتيكية الحركية للكون نزعات التبسيط المنتمية إلى جوهر المادية الساكنة و تقول بوجود علاقات حركية متبادلة بين الجزء و الكل بحيث تؤلف الأجزاء الكل، و لكن الكل  نفسه يترك أثره على الأجزاء المؤلف منها.  بعبارة أخرى الجزيئات المادية التي تدخل في تركيب الخلية الحية ليست ((عمياء تماما في مجراها)) لأنها تتحرك وفقا لنظام التركيب  الكلي الذي تعتبر جزءا منه ، و هي أن دخلت في تركيب جسم من نوع آخر تأثرت في سلوكها بنظام التركيب الكلي لذلك الجسم. و يعني هذا أن توفر المعلومات الدقيقة الكاملة عن حركة الذرات المادية لا يكفي وحده للتنبؤ بنوعية النشكيلات و الظواهر التي ستنتج من تجمع الذرات، لأن معرفة حركتها على هذا النحو تفترض مباشرة علمنا المسبق بنوعية التشكيلات المركبة نفسها و بنظام تركيبها الذي يؤثر على حركات الذرات و مجراها. أي لا تكتمل معرفة الجزء العلمية إلا بمعرفة أشياء عن طبيعة الكل الذي يدخل هذا الجزء في تركيبه. و على هذا الأساس تصبح فكرة لابلاس عن العقل الرياضي الجبار و العلم الذي يستطيع إكتسابه من معرفته لذرات المادة نوعا من المستحيل، إذ ليتمكن هذا العقل من رؤية ماضي الكون و حاضره و مستقبله دفعة واحدة،  لا يكفيه أن يعلم سرعات جميع الذرات و أماكنها في كل لحظة زمنية، بل ينبغي عليه أن يعرف أيضا طبيعة الكون الناتج عن حركات الذرات لأن حركاتها متأثرة أصلا بطبيعة الكل الذي تشكله و تجري ضمنه و ضمن نظامه. أضف إلى ذلك أن المادية الديالكتيكية ، بتخلصها من الزمن المطلق و المكان المطلق تعتبره فكرة الذرة المادية التي تشغل مكان معين و تسير بسرعة محددة تماما في أية لحظة من لحظات الزمن هي فكرة فارغة من كل معنى حقيقي و لا تنطبق على واقع الأشياء الحركي و حقيقتها. و بدون مطلقات المادية  الساكنة لا يمكن أن تقوم لفكرة لابالاس أية قائمة.
و جدير بالذكر هنا أن هوايتهيد نقد فيما بعد النزعة التبسيطية في المادية الساكنة من وجهة النظر الحركية هذه و ذلك برفضه إمكانية النظر إلى الطبيعة كواقعة سكونية في لحظة لا إمتداد لها. و على هذا الأساس ترفض المادية الديالكتيكية أي إرجاع قسري للظواهر الأرقى  نموا و تطورا و اعقد تركيبا في الطبيعة إلى ظواهر أدنى منها و أبسط بدون الأخذ بعين الإعتبار الخصائص الجديدة المميزة لأنواع الموجودات على كل مستوى من مستويات التطور و التعقيد في التركيب، التي تفرزها صيرورة المادة. و يتطلب هذا من كل مجهود علمي محاولات دائمة لصياغة القوانين المحددة التي تخص السمات الأساسية المميزة لكل مستوى من هذه المستويات، مما يعني تطوير مناهج البحث المناسبة لكل مستوى بدلا من التطبيق عليه،  بصورة تعسفية و آلية قسرية، لمناهج منقولة من مستوى آخر. غير أنه حين ترفض المادية الديالكتيكية هذه النزعة التبسيطية في إرجاع علم معين من العلوم (مثل البيولوجيا) إلى علم آخر  (مثل  الكيمياء و من ثم الفيزياء) يعتبر سابقا عليه فإن هذا لا يعني انها تقر بوجود فوارق نوعية جوهرية مطلقة بين المستويات المتعددة التي تندرج تحتها ظواهر الطبيعة المختلفة. أي أنها ترفض فكرة الفوارق النوعية المطلقة في الطبيعة، و التمييزات النهائية الحادة بين مستوى الظواهر الفيزيائية ، مثلا ، و مستوى الظواهر البيولوجية و من ثم مستوى الظواهر التاريخية - الاجتماعية . كما تشدد على تكامل هذه المستويات و تدرجها و اتصالها،  أي تشدد على وحدة الطبيعة ككل بهذا المعنى الجدلي المحدد
________________________________________
جاءت الضربة الحاسمة التي قضت على المادية الساكنة كصورة كونية هامة في العصر الحديث من جهة الوسط،  أي من علم الفيزياء نفسه الذي كان الدعم الأكبر للنظرة الميكانيكية و المنشأ الأصلي  لها. و إذا كان العلماء قد قبلوا لمدة ثلاثة قرون، بتصورات المادية الساكنة و مناهجها و أساليبها، فإن هذا لا يعني بأنهم كانوا راضين عنا كامل الرضى كصورة كونية شاملة و أداة لتفسير طواهر الطبيعة تفسيرا سببيا يمكننا من التنبؤ بها و السيطرة عليها ضمن حدود معقولة. و مع مرور الوقت بدأت المفارقات النظرية بالظهور في صلب المادية الميكانيكية. و بدأت الصعوبات التجريبية تتراكم أمامها دون أن تتمكن من تفسيرها و حلها كما يفترض في النظرية العلمية أن تفعل، و أدت هذه الحال إلى ضرورة إعادة النظر الشاملة الكاملة بالمادية الكلاسيكية و بمفترضاتها الأولية. و أدت هذه المراجعة إلى النظرية النسبية الخاصة و  من بعدها إلى النظرية لنسبية العامة.  و هنا سأضرب ثلاثة أمثال على نوعية المشكلات التي واجهت المادية الساكنة و أدت في نهاية الأمر إلى التنازل عنها  لصالح نظريت علمية شاملة و جديدة.
أ) حين وضع علم الأجنة ، في القرن التاسع عشر ، على أسس تجريبية سليمة (أي حين أصبح علما حقيقيا بالمعنى  الدقيق) كانت تطغي عليه فكرة العلاقة ((الفسيفسائية)) بين البويضة من ناحية و بين تطور الجنين من ناحية أخرى. بعبارة أخرى كانت  النظرية السائدة وقتئذ تقول أن كل جزء من أجزاء الجنين المتطور ينمو من جزء معين و محدد من البويضة و ليس من غيره، بحيث إذا دمرنا جزءا معينا من بويضة ما، نتج عنها جنين تنقصه تماما تلك الأعضاء التي يفترض أنها تنمو من جزء البيضة المعطوب. و واضح أن هذه الفكرة هي الذرية الميكانيكية التيسطية مطبقة في علم الأجنة. و لكن قبل نهاية القرن التاسع عشر إكتشف العالم المشهور  هانز دريش أنه في عدد كبير من البويضات بإمكاننا إعدام أجزاء منها بدون ان يؤثر ذلك على النمو المتكامل الطبيعي للجنين الناتج عنها. إستنتج دريش من إكتشافه أن العلاقة الفسيفسائية لا تكفي وحدها لتفسير الظواهر العضوية، أي ان النموذج  الذري الميكانيكي التقليدي غير قادر على تعليل علاقة  نمو أجزاء الجنين من أجزاء البويضة و يصاحبها إيضاحا علميا سببيا ينطبق على الواقع و التجربة. و بغياب أي تفسير علمي آخر غير التفسير الفسيفسائي في ذلك الوقت، سطح دريش في تخيلاته و حاول تقديم تفسيرات غيبية غامضة لتلك النواحي من الظواهر البيولوجية التي عجزت النظرية الذرية الميكانيكية عن تفسيرها. لذلك إنحاز دريش إلى صف المذهب الحيوي في علم الأحياء.
 إن رفض العلاقة القسيفسائية في هذا المجال ينبغي ألا يعني الخروج من حضيرة العلم و تعليلااته و الدخول في حضيرة الغيبيات و القوى الخيفية كما حدث مع دريش، و إنما ينبغي أن ينبهنا إلى أن الجزيئات المادية لا تكون البويضة ( و من ثم الجنين) كما تكون الأحجار الجدار، أو الذرات الغاز الموجودة في وعاء مغلق، بحيث إذا أزحنا حجرا من تلك الأحجار نتج  عن ذلك ، بصورة آلية مباشرة، فجوة في الجدار. إن الجزيئات المادية في البويضة هي غير الجزيئات في الغاز المذكور لأنها تتأثر في سلوكها و حركتها  بالنظام  الكلي للعنصر الذي تدخل في تكوينه  و هو الكائن الحي الذي يعمل على مستوى رفيع جدا من التعقيد و التركيب العضوي. و لذلك نجد أن البويضة قادرة على تعويض العطب الذي قد يلحق ببعض أجزائها، و سد جميع الفجوات التي قد تنتج عنه.
ب) في أواخر القرن التاسع عشر قام العالمان مايكلسون و مورلي بتجربة مهمة جدا في تاريخ الفيزياء الحديثة، إذ أنها كانت بداية النهاية للمادية الساكنة كصورة كونية علمية مقبولة. إبتكر العالمان جهازا معقدا يمكنهما من قياس السرعة المطلقة للأرض في حركة دورانها في ((الأثير)) . و جاءت نتائج التجربة  سلبية تماما مما إضطر العلماء إلى التخلي نهائيا عن فكرة السرعة المطلقة للأجسام و إسقاطها  مع فكرة الأثير من الصياغة الجديدة للميكانيكا كما نجدها عند إرنست ماخ مثلا. ثم جاءت نظرية إينشتاين لتخلص الفيزياء نهائيا من تصورات الزمن المطلق و الوعاء المكاني المطلق و تبين أن المقادير المكانية و الزمانية نسبية إلى مجرى أحداث العالم المادي و مشتقة منه.
جـ) كان لتطوير لهندسات اللاإقليدية و نجاح العلماء في تطبيقها في الفيزياء النظرية و التجريبية ، أثرا هاما في ثقويض ركائز  المادية الميكانيكية إذ تبين أن التصور النيوتوني للمكان أنه لا متناهي و متجانس و ثلاثي  الأبعاد و إقليدسي الصفات لا ينطبق على الواقع،  إلا ضمن حدود  معينة (حدود المسافات القصيرة نسبيا، و الاجسام غير الكبيرة جدا  أو الصغيرة جدا، و السرعات المنخفضة نسبيا)  تخطاها تقدم العلم، مما جعله يواجه مشكلات و مسائل لا يمكن حلها و تفسيرها إلا على أساس الأخذ بالهندسات اللا إقليدسية الجديدة.


و ليس بإستطاعتنا أن ندعي بأن القرن العشرين قد  صاغ لنفسه، بشكل نهائي، صورة كونية متكاملة، إنطلاقا من إنجازاته و إكتشافاته العلمية،  لتحل  محل الصورة المادية التي ذهبت. في الواقع، أن صياغة مثل هذه الصورة بنبغي أن تتصف دوما بالحذر و بروح التقريب و الترجيح و المرونة و القدرة على المراجعة و التعديل وفقا  لما يجد من إنجازات و إكتشافات علمية هامة تؤثر في نظرتنا إلى الطبيعة و قدرتنا في السيطرة عليها. و من المؤكد إن المادية الديالكتيكية هي أنجح محاولة نعرفها اليوم في صياغة صورة كونية متكاملة تناسب هذا العصر و علومه، و أعتقد أن هذا جزء مهم مما عناه سارتر حين قال: ((الماركسية هي الفلسفة المعاصرة))

ليست هناك تعليقات: