شبهة الإعجاز العددي
في سنة 1880 تسائل الفلكي السويدي جيلدن Gylden عن إيجاد طريقة عملية لدراسة الطابع الناطق أو الأصم للنسبة المتوسطة لسرعتي كوكبين، أي التسائل عن إن كان أحد حدود تفكيك هذه النسبة غير دوري ( يمتلك متتاليات أرقام غير مكررة بعد الفاصلة ). فكرة جيلدن هي إعتبار هذه النسبة عددا عشوائيا، بأخذ بعين الإعتبار إضطرابات الكوكبين، و دراسة شاملة لقانون الإحتمال للنسب الجزئية المقابلة لهما و ذلك لتحديد إحتمال إن كان أحدهما أكبرمن الآخر. قام فيما بعد الرياضي السويدي أندريوس ويمان Anders Wiman بدراسة تطوير نظرية الإحتمال في حقل الأعداد الحقيقية وفي سنة 1904 إكتشف الرياضي الفرنسي إيميل بوريل Emile Borel بالصدفة مقالا علميا لويمان حول قانون الإحتمالات للنسب الغير تامة في تفكيك أي عدد حقيقي إلى كسر متواصل بحيث نأخذ هذا العدد عشوائيا ما بين 0 و 1 . في هذا العمل إستعمل ويمان تقنية الـ σ - جمعية مما جعل بوريل يطور نظرية القياس في مجموعات عامة بإدخال تكامل لوبيغ Lebesgue لدراسة مسألة إحتمال أخذ بالصدفة عددا ناطقا عشوائيا ما بين 0 و 1. في سنة 1908 في مقاله الشهير حول التطبيقات الحسابية للإحتمالات القابلة للعد إستطاع بوريل توضيح مفهوم العدد الحقيقي المستمر بإدخال مفهوم الأعداد الناضمية مطلقا أي التي تفكيكها يمتلك توزيعا ناظميا في أي أساس تعداد . و يبرهن بوريل أن إحتمال أن يكون عدد حقيقي مأخوذ عشوائيا ما بين 0 و 1 يمتلك هذه الخاصية هو إحتمال أكيد و أن كل عدد ناظمي مطلقا هو عدد أصم.
هذه النظرية الجديدة (نظرية القياس و المكاملة) توسع تطبيقها في جميع الميادين و إستطاعت حل الكثير من المسائل المفتوحة و التناقضات الرياضية، نذكر من بينها في مسائل الإحتمالات كمسالة برنولي 1713 بإدخال مفهوم الأمل الرياضي كقياس للإحتمالات الغير منتهية و تطبيقها في مسائل التنبوء و إتخاذ القرارات إنطلاقا من معطيات معينة و نشوء نظرية شانون للمعلومات.
في سنة 1948 كتب عالم الرياضيات و المهندس الإلكتروني كلود شانون Claude Elwood Shannon مقالا علميا حول الأنظمة المعلوماتية و مسألة نقل معلومة من مصدر ذو طبيعة متنوعة : صدى صوت، صورة أو نص كتابي نحو مستقبل عبرناقل معلومات الذي قد يكون خط هاتف، عدسة بصرية، آلة تصوير، قرص مرن...عموما يمكن تشويش هذا الناقل فينتج أخطاء في الإرسال و لتصحيح ذلك نلجأ للتشفير المعلوماتي بتغيير شكل المعلومة
إعتمد الباحث الفرنسي Jean-Paul Delahaye سنة 2001 على مبرهنة بوريل لتفسير مسألة التنبوء و إتخاذ القرار إنطلاقا من الكتب السحرية التي يعتمد عليها الوسطاء الروحانيون و تفسيرها بكل بساطة : (( بأخذ عدد كبير من التبديلات التوافقية للحروف، نجد كلمات معروفة و أحيانا كلمات قريبة منها ، و يمكن بدون عناء النجاح في الحصول على إحتمالات حوادث في الحاضر أو الماضي، و إمكانية التنبوء و إتخاذ القرار في المستقبل )). قام الباحث Brendan McKay بالتجارب للتأكد من هذه المبرهنة الرياضية فوجدها تصلح ايضا على كتب عادية و كلما زاد عدد كلمات هذا الكتاب كلما كان الإحتمال أكبر للحصول على أشياء صحيحة أو خاطئة في كتب أخرى.
نظرية الشّفرة Théorie des Codes تطبق أيضا على النصوص المكتوبة، إذ تبلغ صحة نتائجها مستوى قياسيا يصل إلى 999.999 بالمليون. وهذا ما يكشف خصائص كل كاتب أو مؤلف لا يدري بها هو شخصيا ولا يكتشفها أي باحث علمي أو أدبي من خلال تحليله وتقييمه الشخصي للنصوص وفقا للطرق التقليدية والكلاسيكية. غير أن علم الرياضيات الحديث من شأنه أن يفنّدها ويصنّفها كما يستطيع اكتشاف خصائص نصّ معيّن في حال ورودها في نصّ آخر. وهذا ما يسمح بالتأكد إذا كانت بعض أقسام نصّ ما تعود إلى نفس الكاتب أو إلى عدة كتبة.
نذكر بأن التطبيقات الأولى لنظرية الشّفرة استخدمت للأغراض العسكرية خلال الحرب العالمية الثانية بهدف كتابة الرموز وبثّها وتفكيكها. بعد ذلك، تطوّرت هذه النظريّة حتى أصبحت تستخدم اليوم في مختلف الأنظمة المشفّرة، في مجال الجينات الوراثية للكائنات الحيّة، ووسائل البثّ والإرسال، وضغط الصور والرسوم، وغيرها. أما بالنسبة للنصوص المكتوبة المعبّر عنها بشكل شفهي أو كتابي بواسطة نظام الأحرف، فتخضع للوسائل والأدوات المستخدمة في نظام الشّفرة الذي طوّر أسلوبا خاصّا يُطبّق على النصوص ويعرف بإسم ADT أي Analyse des Données Textuelles تحليل معطيات النصوص.
فإذا وجدنا مثلا في إحدى المكتبات العامّة مجموعة من الكتب نعرف مؤلفيها، باستثناء كتاب لا نعرف صاحبه، فيستعان بنظرية الشّفرة التي تسمح بالتعرّف على شارة حسابيّة تميّز كلّ كاتب وتسمح بالتعرّف على صاحب الكتاب غير الموقّع، وذلك في حال وجود كتب أخرى في المكتبة تعود إليه أو معروف صاحبها.
إستطاعت رياضات القرن العشرين إزاحة الستار على التفسيرات القديمة لظواهر الطبيعة فكما يقول مؤرخ علوم الفلك الفرنسي Alexandre Koyré : (( إكتشافات علم الفلك الحديث في أوروبا حررت البشر من التفسيرات البذيهية و السهلة لظواهر الطبيعة)).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق